لعلها مفارقة محزنة أن يتعرض لبنان، الذي هو رئة الحريات في العالم العربي، الي هذا القدر من التجاذب والفراغ الحكومي بعد الفراغ الرئاسي فمنذ حصوله علي الاستقلال في العام 1943، كان لبنان رمزاً للتنوع الثقافي والديني، وللتعددية الفكرية والسياسية، ورغم صغر حجمه الجغرافي الاّ أنه كان كبيراً في كفاءاته وطاقاته وتأثيراته، نستذكر ذلك ونحن نطالع تقريراً صدر قبل أسابيع لمنظمة العفو الدولية، وهو التقرير الذي يعد من تقارير المنظمات الدولية لحقوق الانسان، الأكثر مهنية وحيادية، بل أن له دوراً ريادياً في بلورة وعي حقوقي علي المستوي العالمي منذ أن خطت منظمة العفو الدولية خطواتها العملية في مطلع الستينات من القرن الماضي. وقد تضمن تقرير هذا العام إشارات مسبقة الي استعداد العالم للاحتفال بالذكري الـ 60 لإبرام الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي صدر في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948. وترافقت دعوة منظمة العفو الدولية للاحتفال بنقد شديد للأوضاع الدولية لاسيما لأوضاع حقوق الانسان، حيث طالبت زعماء العالم الاعتذار عن الاخفاق والفشل في احترام حقوق الانسان طيلة السنوات الـ 60 الماضية.
إن قصة صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان تضمنها كتاب صدر باسم العلاّمة شارل مالك، تم فيه جمع شهادات ووثائق ومذكرات وأوراق خلفها المفكر والدبلوماسي اللبناني الذي أسهم بفاعلية متميزة في بلورة الاعلان، وقام نجله حبيب مالك بتبويبها وعرضها بعد جولة مسح مهمة في واشنطن ونيويورك وبوسطن وفي وثائق الأمم المتحدة وجامعة هارفرد ومكتبة الكونغرس، إضافة الي الوثائق الشخصية بما فيها بخط اليد والمودعة لدي احد البنوك الأمريكية المعروفة، وهي بالاساس مجموعة مذكرات ويوميات وخواطر لسنوات طويلة.
ما يهمنا هنا هو الرواية التي يقدمها الكتاب عن صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان ودور شارل مالك ولبنان في ذلك حيث يقول الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان في تقديمه للكتاب" إن الاعلان العالمي لحقوق الانسان هو واحد من أعظم انجازات القرن (العشرين)... في تلك المرحلة شغل الدبلوماسي اللبناني المرموق شارل مالك منصب رئيس اللجنة الثالثة للجمعية العمومية، لعب دوراً حاسماً في صوغ نص هذا الاعلان".
وقد كتب الكاتب والاعلامي اللبناني رفيق معلوف الفصل الأول من الكتاب بعد اطلاعه علي الوثائق والمذكرات الشخصية الزاخرة بالأحداث الدولية لرجل مولع بالفيزياء والرياضيات والمسكون بالفلسفة والجدل، فشارل مالك " وحيد بين الأقوياء" ، مثلما هو لبنان صغير أمام الكبار حيث عارض أفكاره في الدفاع عن فلسفة الحقوق والحريات لاسيما الشخصية منها ووقف ضدها مندوب الاتحاد السوفيتي والمندوب البريطاني، في حين تأرجح المندوب الفرنسي في الوسط، ولا شك أن جميع مندوبي الدول الكبري كان يعملون باسلوب أو بآخر للحؤول دون ابرام شرعة حقوق الانسان الدولية، وفي نهاية المطاف لم تعارضها أية دولة من أعضاء الأمم المتحدة الـ58 آنذاك، لكن 6 دول اشتراكية امتنعت عن التصويت وتحفظت عليها دولة جنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية في حينها، وكان قد حمل راية الاعلان وروّج لها ثلاث دول من امريكا اللاتينية، وجاء الاعلان ثمرة المشترك الانساني لاسيما فلسفته وقاعدة الحريات التي دعا اليها رغم أنه كانوا أقرب الي التوصية، ثم استكمل في العهدين الدوليين الاول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادران عن الجمعية العامة عام 1966.علي مدي ثلاثة أعوام خاض شارل مالك كفاحاً عنيداً لإقرار الاعلان، فبعد الحرب العالمية الثانية وصدور ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسسكو في 24 حزيران (يونيو) 1945، انصبت الجهود علي اصدار اعلان خاص لحقوق الانسان، وإن كان قد جاء ذكره لسبعة مرات في الميثاق، الاّ أنه لم يتقرر عدّه مبدأ خاصاً مستقلاً، الاّ بعد العام 1975 في مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الاوربي، حيث تم اعتماده ومعه احترام حرمة الحدود وعدم خرقها واحترام وحدة الأراضي واستقلالها كمبادئ مستقلة، تضاف الي قواعد القانون الدولي السبع التي تضمنها تصريح الجمعية العامة للامم المتحدة في العام 1970 والتي عُرفت بقواعد التعايش السلمي الناظمة للعلاقات الدولية ومبادئ أساسية في القانون الدولي المعاصر.نجح شارل مالك في ظل أوضاع معقدة وصعبة وخلافات فكرية حادة لاسيما وقد كانت الحرب الباردة قد بدأت بصيحة تشرشل العام 1947 ضد الشيوعية وانفضّ التحالف المعادي للنازية والفاشية الذي تأسس في الحرب العالمية الثانية بعد دخول الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في الحرب (1941)، ففي أعوام 1946 و1947 و1948 وبعد جلسات مطوّلة عقدتها لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة والممثلة لـ58 دولة و22 اجتماعاً صاخباً لمناقشة المسودة الأولي. تم التوافق علي صيغة موحدة ومبادئ عامة لاسيما بعد نقاشات مطولة لعب فيها شارل مالك الفيلسوف اللبناني وكاسان الاكاديمي الفرنسي وتشنغ الصيني الكونفوشيوسي، بحيث ضمنت حريات الافراد وحقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.فأين نحن من شارل مالك الفرد، كيف مثل لبنان الصغير، " الدولة الميني" في عالم الكبار والعمالقة، لكي يلعب هذا الدور المتميز في اقرار أهم وثيقة دولية ستكون الشجرة الوارفة التي تفرعت عنها الفروع والغصون والثمار، في أكثر من 100 اتفاقية ومعاهدة وتصريح دولي بشأن حقوق الانسان.ان لشارل مالك شرف صياغة مقدمة الاعلان والبناء الفلسفي الذي استند اليه والذي مثل جوهر الاعلان وروحه، فكم كان دور الفرد كبيراً بابداعه وقدراته في التأثير والتغيير، رغم انه يمثل بلداً صغيراً، لاسيما في الايمان ما أحوجنا لقراءة شارك مالك الآن حين يقول " إنني قلق بالنسبة للوضع في لبنان ومستقبله، فلا أجد أحد يدعمه.كانت أحلام شارل مالك كبيرة لدرجة تتخطي العرب والمنطقة، فامنياته غير شخصية وسعيه الانساني بلا حدود ففي 25 تشرين الأول (اكتوبر) 1946 قدم الي اليونسكو اقتراحاً بأن تكون مهمة اليونسكو الأولي هي : اصدار موسوعة كبري باللغات الحية للآثار الكلاسيكية الخالدة التي أنجبها العقل البشري من مطلع التاريخ المدّون الي يومنا هذا، وذلك بهدف تعريف الاجيال وتثقيفهم بالمشترك الانساني بروح التسامح ونبذ العصبيات ولتقريب وجهات النظر بينهم.ولو قدر لهذا الحلم أن يتحقق، فلربما كانت معرفة كل بحضارة الآخر وثقافته وتراثه أوفر بكثير مما هي عليه الآن ولوّفر الأمر فرصاً أحسن للسلام والتعايش والتعاون بين الشعوب لتطويرها وإنمائها علي النحو الذي أراده ميثاق الأمم المتحدة، او علي أقل تقدير لساهم بشكل إيجابي في العلاقات الودية.وإذا كانت منظمة العفو الدولية قد طالبت زعماء العالم بالاعتذار فان شارل مالك وفي نفسه حسرة لهذا التقصير إزاء حقوق الانسان واستهتار الأقوياء كما يقول رفيق معلوف، ومع ذلك لا يمكن أن نستذكر الاعلان العالمي لحقوق الانسان دون أن نستذكر شارل مالك، فعمله الغامض ويونوبياته أصبحت حقيقة قائمة، لكنها لا تخلو من عقبات وعراقيل بل كوابيس أحياناً، وبما أنه جزء من الحلم الانساني فهي تسجيل لذاكرة المستقبل.