قرعت أجراس الحزن عند انتخابه.. والفرح عند عودته عن الاستقالة
فؤاد شهاب: رجل الإصلاح الذي اصطدم بالطوائف ورفض التمديد

فؤاد شهاب 2864FOUAD
م. ع.م

ابن العائلة الشهابية المعروفة بتاريخها العريق في الجبل. انتمى إلى السلك العسكري في زمن الانتداب الفرنسي وتدرج في الرتبة إلى أن أصبح قائداً للجيش في عهد الرئيس بشارة الخوري. وبعد أن اضطر الأخير للاستقالة سنة 1952 على أثر مؤتمر دير القمر والإضراب الذي أعقبه، استلم اللواء فؤاد شهاب الرئاسة مدة وجيزة بصفته رئيساً للحكومة الموقتة. وقد طرح شهاب لينتخب رئيساً للجمهورية، لكنه أصر على أن يأتي رئيساً بالإجماع، وكان ذلك متعذراً في ظل إصرار المرشحين كميل شمعون وحميد فرنجية على الاستمرار في المعركة الانتخابية. وقد انتخب كميل شمعون رئيساً للجمهورية بشبه إجماع بعد أن انسحب حميد فرنجية عن الترشح. وقيل إن عامل التفوق لشمعون كان دعم الهاشميين (في العراق والأردن) له، مع تأييد الإنكليز القوي له، وكذلك ميل الرئيس السوري أديب الشيشكلي له.
مع سقوط مشروع تجديد ولاية كميل شمعون للرئاسة مرة أخرى، على النحو الدموي الذي ساد في تلك الحقبة، ارتأى المبعوث الأميركي إلى لبنان روبرت مورفي أن التفاهم مع جمال عبد الناصر هو السبيل الأجدى لحل الأزمة الدامية اللبنانية. وكان عليه أن يواصل مساعيه لإيجاد رئيس مناسب يخلف كميل شمعون.. واستقر رأي مورفي وعبد الناصر على فؤاد شهاب. وإذا كان بعض المعارضين ترددوا حيال انتخاب قائد الجيش، فإن موقف عبد الناصر كان كفيلاً في حسم ترددهم وحيرة المبعوث الأميركي.
في كتابه عن فؤاد شهاب، يذكر باسم الجسر أن إقناع قائد الجيش بقبول انتخابه رئيساً اقتضى تدخلاً حاسماً من قبل المبعوث الأميركي الذي وجه إليه ما يشبه الإنذار والتهديد لقبول الرئاسة. وإنه «في حال الرفض»، فإن الأسطول الأميركي سوف ينسحب من لبنان ويترك اللبنانيين يواصلون تقاتلهم. وكانت المعارضة رشحت قائد الجيش فؤاد شهاب في 10 حزيران لرئاسة الجمهورية، وفي 31 تموز انتخب رئيساً للبلاد. وقرعت أجراس الحزن في بعض المناطق لأن خروج شمعون كان في نظر غالبية من المسيحيين هزيمة لهم. ولا شك أن شهاب تألم كثيراً عند سماعه أجراس الحزن هذه.
تسلم الرئيس فؤاد شهاب سلطاته الدستورية في اليوم الأخير من ولاية الرئيس كميل شمعون في 20 أيلول ,1958 وباشر على الفور بتأليف حكومته الأولى التي تشكلت في 24 أيلول برئاسة رشيد كرامي وعضوية: شارل حلو وفيليب تقلا ومحمد صفي الدين ويوسف السودا ورفيق نجا وفريد طراد وفؤاد نجار.
لكن هذه الحكومة لم تعمر أكثر من ثلاثة أسابيع، لأنه كما يقول الوزير والنائب السابق الراحل يوسف سالم في كتابه «50 عاماً مع الناس»: انتفض تيار قوي من المواطنين رافضاً القبول برشيد كرامي رئيساً للوزارة الجديدة، وهو الذي اشترك اشتراكاً رئيسياً مسلحاً ضد الشرعية. ولم يغفر كميل شمعون للجنرال شهاب موقفه منه ومن الثورة التي نشبت ضده، فما كاد شهاب يتربع على سدة الرئاسة حتى أدرك أن فريقاً كبيراً من اللبنانيين لا ينظر إليه وإلى حكمه بعين الرضا. ويقول يوسف سالم: «إذا كانت الثورة التي تزعمها صائب سلام ورفاقه هدأت، فإن ثورة مضادة نشبت إثرها بقيادة الكتائب اللبنانية بالاتفاق مع الرئيس شمعون، وذلك لإفهام شهاب: «إننا نحن الذين نمثل المسيحيين في هذا البلد، والموارنة بشكل خاص، لا أنت».
بعد تعذر عمل الوزارة الجديدة وسقوطها تألفت وزارة ثانية عنوانها «لا غالب ولا مغلوب» في عدادها أربعة وزراء: رشيد كرامي رئيساً، وبيار الجميل، والحاج حسين العويني، وريمون اده أعضاء. وتضمن بيانها الوزاري النقاط الآتية:
- الحرص على سيادة لبنان واستقلاله.
- الميثاق الوطني هو طريق الحكومة وسياستها، والوحدة الوطنية شعارها الرائد.
- يجب بناء دولة وفقاً للمبادئ التي تضعها النخبة وتلائم مصلحة الشعب وطموح المواطنين.
كان فؤاد شهاب رجل إصلاح وتحديث لكنه اصطدم بواقع سياسي وطائفي على الأرض منعه من تحقيق كل طموحاته. اثر انتخابات 1960 توصل كما يؤكد الوزير والنائب الراحل يوسف سالم «إلى نتيجة ملموسة في تحقيق الوحدة الوطنية(، ولكنه (شعر أنه في واد واللبنانيون في واد، فإذا بمحطة الإذاعة تعلن في الساعة الثانية من بعد ظهر 20 تموز أن رئيس الجمهورية قد استقال. انفجر نبأ الاستقالة في الأوساط السياسية، وفي سائر الأوساط كما تنفجر القنبلة وقوبلت للوهلة الأولى بالوجوم والدهشة والتساؤل. ثم استعاد النواب ورجال السياسة روعهم، وأدركوا أنهم أمام حادث خطير، فهبوا هبة رجل واحد وهرعوا إلى دارة الرئيس في جونية، يلحون عليه أن يعود عن استقالته ويجنب البلد هزة جديدة».
وأخيراً يقول يوسف سالم: «نزل الرئيس عند رغبة النواب والسياسيين والجموع المحتشدة أمام الدار وفي داخلها وأعلن أنه عاد عن استقالته.. وصل النبأ إلى العاصمة والقرى المجاورة فكان له صدى بعيد. والطريف أن تلك الأجراس التي قرعت حزناً يوم تسلم شهاب سدة الرئاسة هي التي قرعت فرحاً وابتهاجاً بعودته عن الاستقالة».
المحاولة الانقلابية
وسط هذه الأجواء جاءت المحاولة الانقلابية للحزب السوري القومي الاجتماعي في 30 كانون الأول 1961 لكنها أخفقت بعد ساعات، فكان ذلك سبباً رئيسياً لتعزيز دور ومكانة الشعبة الثانية (المكتب الثاني) في الجسم السياسي والحياة السياسية في لبنان.
حدث - كما يقول باسم الجسر في كتابه «فؤاد شهاب» - ما سمي بتدخل الجيش عبر المكتب الثاني في السياسة، ولاسيما في شؤون السهر على الأمن ومراقبة النشاطات السياسية في لبنان. كان فؤاد شهاب حريصاً على إبعاد الجيش عن السياسة والحزبية، وبرهن على ذلك في غير مناسبة، ولكنه في الوقت عينه كان يرتاح إلى التعاون مع الضباط القدامى من رفاقه الذين اختبر كفاءتهم، ووثق بهم وبولائهم في أثناء خدمتهم معه في الجيش».
الواقع أن عهد شهاب تميز بسيطرة هؤلاء العسكريين على مفاصل الحياة اللبنانية. وقد تمادوا في تلك السيطرة ما ولد نقمة شعبية للتجاوزات التي كانت تحصل من قبلهم جيّرتها المعارضة لحسابها.
لقد وضع الرئيس شهاب نصب عينيه، منذ اليوم الأول لتسلمه المسؤولية، مسألة بناء المؤسسات والتنمية الاجتماعية الشاملة التي استعان في سبيلها بمزيد من الخبراء وببعثة «ايرفد»، فكان أن ولدت سلسلة من المشاريع والقوانين والمؤسسات نذكر أبرزها: مصلحة الإنعاش الاجتماعي، ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى، ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت، وإنشاء معرض طرابلس الدولي، ومكتب القمح، ومكتب الفاكهة، وإنشاء مجلس الخدمة المدنية، وهيئة التفتيش المالي وديوان المحاسبة، وتنظيم مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة ومعهد الدروس القضائية، وإنشاء كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، ووزارة التصميم الخ...
على الصعيد الخارجي اتبع سياسة حيادية، لكنه حاول دائماً التفاهم مع عبد الناصر. وعقد لهذه الغاية اجتماعاً معه على الحدود اللبنانية السورية، كما حرص على التضامن العربي، وعمل من أجله.
طرح أنصاره ومؤيدوه من النواب فكرة التجديد له مرة ثانية. وسعوا إلى ذلك بقوة، غير أنه لم يرضخ لهم، واستمر معارضاً لها رغم كل الظروف الملائمة لهذه الغاية. وقد أطلق على مؤيديه اسم جماعة «النهج» أو الحزب الشهابي. أما المعارضة فرغم تمسكها بمقاومته استناداً إلى معارضتها لنهج حكم المكتب الثاني، كما أسموه، فإنها لم تكن على مقدرة لعرقلة وصوله إلى الحكم مرة أخرى.
يقول باسم الجسر في كتابه: «لم تستسلم الأكثرية النيابية لرفض الرئيس شهاب للتجديد، فما أن وقع 79 نائباً على مشروع قانون تعديل الدستور أحاله رئيس المجلس إلى الحكومة التي تبنته وألحت مع النواب على الرئيس شهاب لقبوله، آملة أن يستجيب الرئيس ويقبل بالتجديد، لكن الرئيس شهاب رفض توقيع تعديل الدستور ورده إلى المجلس. وبدا واضحاً للجميع أن تجديد الرئاسة لفؤاد شهاب قد طوي. وبدأ البحث عن رئيس جديد للجمهورية».
م. ع. م.



Assafir