على مرأى من العالم، اقترف رجلا دولة، خلال 24 ساعة، جريمتين سياسيتين مدوّيتين.
باراك اوباما أقدم في واشنطن وبتاريخ لم يمر عليه الزمن على «قتل» ابو مازن محمود عباس بدم بارد، قصداً وعمداً، بكلمات واضحة فاضحة سددها الى رأس المغدور.
كان ابو مازن ما زال «يتخبط بدمه» عندما قام بنيامين نتنياهو، في فجأة الغدر، بإطلاق بضع كلمات مسمومة على «القاتل» المزهو بجريمته فأرداه للتو.
اوباما، رئيس الدولة العظمى، حاضنة «اسرائيل» وحاميتها، «قتل» ابو مازن سياسياً بتبنيه علناً فكرة «الدولة اليهودية» ؛ مُسقطاً مطالب اميركية سابقة بوقف الاستيطان؛ متخلياً عن اي دور اميركي في الوساطة او في استضافة المفاوضات او في تكليف مبعوث لمتابعتها كبديل من الموفد المستقيل جورج ميتشل ؛ مؤكداً التزاماً أميركياً متجدداً بالاولويات الصهيونية لأي مفاوضات، وأهمها الامن والحدود؛ مؤجلاً البحث في البندين الاكثر حساسية، القدس وعودة اللاجئين؛ داعياً الى اقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح؛ مجيزاً انسحاباً «اسرائيلياً» متدرجاً من الضفة الغربية؛ معلناً رفض اميركا مشروع الاستحصال على اعتراف من الجمعية العامة للامم المتحدة بدولة فلسطينية على «حدود» 1967.
أطلق اوباما كل هذه العبارات القاتلة، فأردى ابو مازن بما هو ممثل الجانب الفلسطيني في المفاوضات المزمنة (السابقة) مع الجانب الصهيوني. فعل ذلك قبل 24 ساعة من اجتماعه الى نتنياهو، أملاً في ان يرضيه، فيوافق على استئناف المفاوضات في تمرينٍ للمستحيل جديد. لكن نتنياهو، المدرك ضعف اوباما وإنشغاله بتأمين ولاية رئاسية «ثانية»، ردّ باستعجال «قتل» الرئيس الاميركي سياسياً على مرأى من شعبه والعالم برفض مضمون خطابه، ولاسيما إقامة الدولة الفلسطينية على «حدود» 1967.
الأنكى من ذلك كله، ان شخصيات نافذة في الحزب الجمهوري، بينهم مرشحون اقوياء للانتخابات الرئاسية العام 2012، اتهمت اوباما بأنه خان «اسرائيل» في خطابه، وانه تخلّى عنها. ردّت اوساط الرئيس الاميركي، بذلٍّ، انه ينوي زيارة «اسرائيل» في الصيف المقبل!
الغريب ان اول ردة فعل للرئيس الفلسطيني المقتول سياسياً، كانت تصريحاً منسوباً اليه بضبط رئيس الوزراء «الاسرائيلي» بجرم مشهود: رفض مبادرة الرئيس الاميركي. ترى، هل كان ابو مازن ليستأنف المفاوضات لو تقبّل نتنياهو مبادرة اوباما المتضمنة تراجعاتٍ مدمرة؟!
الأغرب تلك الحيثيات التي ادلى بها نتنياهو لرفض مبادرة اوباما وابرزها خمس:
اولاها، «ان «اسرائيل» لا يمكنها العودة الى حدود العام 1967 لأنها لن تتمكن من الدفاع عنها». هذه الذريعة تطرح عدة اسئلة: ضد مَن تحتاج «اسرائيل» الدفاع عن حدودها؟ ضد الاردن الضعيف عسكرياً واقتصادياً، والذي التزم بمعاهدة صلح معها؟ ام ضد مصر التي وقّعت قبل الاردن معاهدة الصلح وارتضت تجريد سيناء من السلاح واقامت فيها اجهزة اميركية للإنذار المبكر؟ ام ضد لبنان وسورية اللتين احتلت اقساماً من اراضيهما؟ ألا يعني رفضها الانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ومن الجولان اعتزامها اللجوء الى الحرب «دفاعاً» عن احتلالها هذه المناطق؟ ثم، هل اصبحت الحاجات الدفاعية، في حال وجودها، مسوّغاً لاحتلال اراضي الغير واستيطانها؟
ثانيتها، «ان الاقتراح الذي عرضه اوباما بشأن الدولة الفلسطينية لا يأخذ في الاعتبار المتغيرات الديمغرافية التي حدثت منذ العام 1967». مؤدى هذا الكلام لوم اوباما لإغفاله واقعة استيطان رقعة كبيرة من الضفة الغربية بأكثر من 470 الف مستوطن صهيوني. فهل استيطان اراضي الغير بالاغتصاب والقوة مسوّغ شرعي لتملّكها ورفض الانسحاب منها؟
ثالثتها، «ان «اسرائيل» لا يمكنها التفاوض مع حكومة فلسطينية تضم حركة حماس لأنها منظمة ارهابية (...) وان على الرئيس عباس ان يقرر ما اذا كان يريد ان يحفظ عهده مع حماس او يصنع السلام مع «اسرائيل»». بإمكان نتنياهو ان يرفض مفاوضة ابو مازن، لكن ليس من حقه ولا في قدرته ان يحدد له من يصالح ومن يخاصم ومن يكون في حكومته او لا يكون. هذا مع العلم ان حكومة الوحدة الوطنية المتفق على تشكيلها مبدئياً لا تضم اعضاء في «فتح» او «حماس» بل شخصيات واختصاصيين مستقلين لرعاية إعمار قطاع غزة وترتيب اجراء انتخابات رئاسية وتشريعية. لذلك فإن ذرائع نتنياهو تعني رفض استئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني إلاّ على شروطه، وبما يؤمن له استيطان الضفة كلها.
رابعتها، عدم موافقة «اسرائيل» على ايجاد حل لمشكلة اللاجئين ضمن حدودها، وعدم البحث في مسألة القدس كعاصمة لـ«إسرائيل» والدولة الفلسطينية. معنى هذا الكلام إغلاق باب التفاوض نهائياً حول هاتين المسألتين الحيويتين، ما يشكّل استفزازاً مدوّياً للجانب الفلسطيني لحمله على رفض مبدأ التفاوض نهائياً، فيبقى الاحتلال الصهيوني ويتوسع الاستيطان بلا ضوابط ولا قيود.
خامستها، ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة كشرط مسبق لمعاودة المفاوضات. هذا يعني امرين في آن واحد: تنازل الفلسطينيين عن حق العودة، وإقرارهم مسبقاً بحق «اسرائيل» في ترحيل الفلسطينيين المقيمين فيها، جزئياً او كلياً، بدعوى المحافظة على يهودية الدولة.
كل هذه الحيثيات والذرائع والمغالطات إن دلت على شيء فعلى رفض «اسرائيل» التفاوض مع الفلسطينيين إلاّ على اساس شروطها، وبالتالي استحالة قيام دولة فلسطينية سيدة مستقلة. ولعل الحقيقة الوحيدة التي تلفّظ بها نتنياهو هي قوله: «إن السلام الذي يعتمد على اوهام سيتحطم في نهاية المطاف على صخرة واقع الشرق الاوسط». فهل ما زال لدى جماعة السلطة الفلسطينية اوهام حول سلام يُعقد مع أعتى كيان عنصري في تاريخ البشرية؟
ماذا بعد خيبة امل الفلسطينيين جميعاً من خطاب اوباما في 19/5/2011، ومن حواره الفاشل مع نتنياهو في اليوم التالي؟
لعل الخيار الافضل ان تتجه القيادات الفلسطينية الى اعتماد استراتيجية مواجهة تقوم على المرتكزات الآتية:
أولاً، توطيد الوحدة الوطنية الفلسطينية والمصالحة بين الفصائل والاحـزاب على اساس الثوابت الوطنية والحقوق غير القابلة للتصرف، والعودة الى اعتماد نهج المقاومة، المدنية والميدانية، بحسب ما تقتضيه متطلبات الجهاد ضد العدو الصهيوني.
ثانياً، إقامة حكومة وطنية جامعة مهمتها اجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، في سياق مواجهة التحديات الماثلة.
ثالثاً، تجاوز سياسة التفاوض مع العدو بالعمل للحصول علـى اعتراف مـن الامم المتحدة بدولة فلسطينية سيدة مستقلة على اساس خطوط العام 1967 وفق صيغة «الاتحاد من اجل السلام»، وذلك عملاً بمبدأ حق الشعب الفلسطيني في إقامة سلطة وطنية على اي جزء من ارضه يجري تحريرها من العدو، مع التمسك بتحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر الى البحر.
رابعاً، مع قيام الدولة الفلسطينية بقرار دولي، يصبح الاحتلال «الاسرائيلي» غير شرعي بالمطلق، فتكون مواجهته شرعية وواجبة بكل الوسائل المتاحة. هكذا تجد «اسرائيل» نفسها في حمأة انتفاضة شعبية شاملة يقوم بها فلسطينيو الداخل (1948) وفلسطينيو الضفة والقطاع، وفلسطينيو الشتات، وسط حصار سياسي وتنديد اخلاقي اقليمي ودولي بـ«إسرائيل».
خامساً، في حال تمادت «اسرائيل» في رفضها تنفيذ القرار الدولي، يكون من حق الدولة الفلسطينية السيدة المستقلة ان تتعاون، وان تنخرط في التحالف القائم بين دول الممانعة وقوى المقاومة في المنطقة، وان تستفيد من امكاناتها السياسية والاقتصادية واللوجستية والعسكرية في الكفاح لتثبيت سيادتها على ارضها ومن ثم لتحرير كامل التراب الفلسطيني.
المقاومة قدرنا.